الأخوة والوحدة الإسلامية
بسم الله الرحمن الرحيم
الأخوة والوحدة الإسلامية
في عصر طغى فيه الاستكبار واستشرى الظلم،وفي زمن تركت فيه شريعة الله تعالى إلى نظم وشرائع مخالفة،وحيث أسفر وجه العداء لله ولرسوله (ص) ولدينه الإسلامي الخاتم فدقت طبول الحرب عليه على جميع الأصعدة، وبمختلف الوسائل وحيث أنه لا مفرّ للمؤمنين من أن يلتفتوا إلى حاله وسط هذا الآتون الحارق للقيم الإلهية السمحة، حيث لا يوجد أمامهم غير طريقين،واحد يوصل إلى الله تعالى بإتباع أوامره وتجنب نواهيه، مهما كان الثمن المقدم لأجل ذلك، والآخر يوصل إلى الشيطان وأوليائه من عبدة الدنيا ومكرسي الاستعلاء والظلم.
والمسلمون اليوم من أجل دفع الخطر المحدق بهم، ورفع الضرر اللاحق بمقدساتهم وأنفسهم، عليهم أن يرجعوا إلى رابطة الأخوة ويعملوا بمقتضاها، فيحدث بذلك التفاف حول الدين وتوطد لأواصر المجتمع الإسلامي فيكونوا بحق مصداق قول رسول الله (ص): المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً.
لقد خص القرآن الكريم الأخوة بالعناية التي تستحقها منذ النشأة الأولى للمجتمع الإسلامي، فقسمها إلى قسمين:
الأول عام: قال تعالى:(كلكم لآدم وآدم من تراب)، فالإنسان كما قال الإمام علي عليه السلام في عهده لمالك الأشتر إما نظير لك في الخلق وهي الأخوة في الجنس البشري،وتفرض احترام النفس البشرية بشكل عام.
الثاني خاص:قال تعالى:(إنما المؤمنون أخوة)،كما في تعبير الإمام علي عليه السلام وإما أخ لك في الدين.
وهي الأخوة في الدين،زيادة على الأخوة في الخلق،ولها من الحقوق المؤكدة،ما يرفعها إلى مقام التفضيل والقداسة،فقد أولاها النبي الأعظم (ص) من الاهتمام،ما جعلها عنصراً مقدماً في بناء المجتمع الإسلامي،فأسس رابطة الأخوة الإسلامية،منذ فجر الدعوة الأولى، فآخى بين المهاجرين في مكة،ثم آخى بينهم وبين الأنصار في المدينة بعد الهجرة المباركة،ومع ما كانت تكتسيه المؤاخاتان من أهمية، فقد أهمل المؤرخون وأصحاب السير شأنهما،فلم تحصل من الإشارة العابرة إليهما،عند عموم المطلعين على السيرة النبوية فائدة.
مقومات الأخوة الإسلامية:
كانت إرادة المولى تعالى في تأسيس رابطة الأخوة الإسلامية،من خلال آيات وحيه واضحة،وكانت مساعي النبي (ص) في ذلك الإطار محمودة،تكللت بالنجاح،واستطاعت أن تزيد المجتمع الإسلامي صلابة وقوة،وفهم المسلمون الأوائل مقصد الأمر الإلهي، ومراد نبيه (ص) منه،فباشروهما تنفيذاً وتطبيقا،فكان المؤاخي من الأنصار،يقاسم أخاه من المهاجرين جواره في المسكن والملبس والمركب والمأكل،حتى كاد بعضهم أن يطلق بعض زوجاته ليتزوجها أخاه في الدين،لولا نهي النبي (ص) عن ذلك.
الأخوة الإسلامية رابطة عظيمة:
قداسة الأخوة الإسلامية وأهميتها،لا تخفيان على ذوي البصائر،فقد شكلت في ذاتها الضامن الأهم لتماسك المجتمع الإسلامي، وديمومته ووعيه،والأخوة الإسلامية في حقيقتها أمتن رباطاً وأقوى أواصراً من أخوة الدم وقرابة النسب،لما اشتملت عليه من التزامات إسلامية فوق أخوة النسب.
فأخوة الدم والنسب،تستوجب الوفاء بإملاءات الروابط الأسرية الضيقة،كصلة الرحم والمودة وتضامن الأسر،أما الأخوة الإسلامية فتستلزم الوفاء بإملاءات الروابط الاجتماعية الكبرى،التي حددها الشارع المقدس،كالفروض الكفائية،والوحدة والتلاحم في منظومة الإسلام،والتآزر من أجل إعلاء دين الله،وتحقيق أهدافه في الأمن والعيش المشترك.
لكن عندما يلتفت المرء إلى واقع الأمة الإسلامية،في مقابل دستورها العظيم،يستغرب وتتملكه الحيرة والدهشة،من التباين الكبير بين القيمة العالية للأخلاق الإسلامية،وبين الواقع المرير الذي تتخبط فيه الأمة الإسلامية (ذلة وهوان وانحطاط)،بحيث أعلن بكل مرارة أنه لا وجه للمقارنة بين القيم الإسلامية،وبين عموم المنتسبين إليها.
زيادة على ذلك،فقد المسلمون ما كان يميزهم من نخوة وإباء،ولم يعد المثل (تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها) ممكن التحقيق،فالعربي اليوم إذا جاع أكل باسته،بسبب ضعفه والفراغ العقائدي الذي أصيب به عقله والمنجر عن ركونه إلى الدنيا،وجعله نصب عينيه هدفاً وغاية،وانصرافه عن حقيقة كونها وسيلة ومطية إلى الآخرة،لا يمكن اعتبارها فوق ذلك،كما لا يؤخذ منها إلا لأجل ذلك العبور.
إذن يمكن أن نجزم،بأن حب الدنيا الذي سيطر على القلوب،هو السبب المباشر في ضياع الروابط الإسلامية،التي كانت تجمع الأمة،وحب الدنيا كما في الحديث رأس كل خطيئة،بما معناه أن كل خطيئة تصدر عن مسلم يكون عامل من عوامل الدنيا هو الدافع والرأس المحرك لاقترافه لها.
حقوق الأخوة الإسلامية:
إن الأحاديث والروايات التي تحدثت عن الأخوة في الدين،هي من كثرة بحيث لا يمكن استيعابها جميعاً،لذلك فإنني سأختصر على روايتين،وأختم بما ذكره الإمام علي بن الحسين عليه السلام في رسالة الحقوق مما يخص الأخوة في الدين:
قال الإمام زين العابدين عليه بن الحسين عليه السلام في رسالة الحقوق: في حق أهل الملة يقول:
فإضمار السلامة ونشر جناح الرحمة لهم،والرفق بمسيئهم وتألفهم واستصلاحهم،وشكر محسنهم إلى نفسه وإليك،فإن إحسانه إلى نفسه إحسان إليك،إذا كف عنك أذاه،وكفاك مؤونته وحبس عنك نفسه، فعمهم جميعاً لدعوتك،وانصرهم جميعاً بنصرتك،وكف الأذى عنهم، وتحب لهم ما تحب لنفسك،وتكره لهم ما تكره لنفسك،وإنزالهم جميعاً منك منازلهم،كبيرهم بمنزلة الوالد،وصغيرهم بمنزلة الولد، وأوسطتهم بمنزلة الأخ،وعجائزهم بمنزلة أمك،فمن أتاك تعاهدته بلطف ورحمة،وصل أخاك بما يجب للأخ على أخيه..
أما الوحدة الإسلامية فهي ضرورة لبقاء الدين ودوام أحكامه وتواصل مجتمعه،قال تعالى:(واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا).,
والوحدة مستمسك أملاه علينا ديننا الحنيف،وأقره عقل كل واع للتحديات التي تواجه الأمة الإسلامية،في مختلف قضاياها المطروحة للحل.
لقد استطاع العالم الاستكباري أن يقطع أوصال الأمة الإسلامية،وأن يتلاعب بمقدراتها ويبتز خيراتها باستعمال حكام موالين لسياساته، استهواهم بهرج الغرب،وتأثروا بثقافته المتحررة من دين الله وأحكامه،فعملوا على هدم عرى الإسلام وتفكيكه لبنة لبنة،وشل فاعليتهم في الأمة لتحريم مظاهره،مهما كانت بسيطة إمعاناً في مسيرة التخلص منه برمته،وبالنظر إلى حالنا الراهنة،وما أفضت إليه،لم يعد لدينا وسيلة وسبب يعيننا على استصلاح ما أفسدته الأيدي الآثمة والمجرمة من ديننا،غير الرجوع إلى الأصل،والعمل الحقيقي بمقتضى رابطة الأخوة الإسلامية،تمهيداً للانصهار والوحدة في جسد واحد،إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر البقية بالسهر والحمى.
والأخوة والوحدة الإسلامية يعنيان أخيراً،أن كل مسلم له الحرية الفكرية والعقائدية،التي يجب أن تتقيد باحترام الرأي المخالف، طالما أنه منضو في الدائرة الإسلامية الكبرى،ويعمل على تعزيز أواصلها.
وباعتبارنا محسوبين على الأمة الوسط التي نوه بها الوحي،فنحن معنيون بالمنطق القرآني الرافض للتطرف،والشذوذ في الفكر والسلوك،وكل دعوى يراد بها تفريق المسلمين،كتكفير مدرسة أصيلة من مدارسهم،أو الحكم بخروج مذهب فقهي أصولي بأكمله من الدين،لا يمكن قبولها من وجهة شرعية باعتبارها مادة فتنة لا علاقة لها بالدين وأهدافه،لأنه من كفر مسلما فقد باء هو بالكفر.
إن الاختلاف الذي يوجد في بعض تفاصيل الفقه والعقيدة الإسلامية لا يمكنه أن يكون دافعا للفرقة ومادة للتنازع، بل العكس صحيح، فلماذا لا نوظف ذلك في إطار التعددية الفكرية الممكنة في الدين، والتماس العذر للآخر،فيما لم يرق إلى الفهم والإقناع،ولماذا يتناسى منا من يتناسى قول أغلب الفقهاء إذا صح الحديث عند غيري فهو مذهبي طالما أنه لا يحق لنا أن ننصب أنفسنا ملاكا للإسلام وحكاما عليه.
إننا جميعا عاملون في هذا الحقل العظيم وفق الحدود المذكورة،التي لا يمكن تجاهلها بأي حال ومن الأحوال،وتحت أي ذريعة كانت.
إن نزعة التطرف التي ظهرت منذ زمن على أيدي طواغيت الأمة للتخلص من المناهضين لهم- وكانوا أساسا ذرية آل محمد صلى الله عليه وآله،ومن شايعهم في حركاتهم،التي قامت أساسا على قاعدة نصرة الله ودينه،وطلبا للإصلاح ومقاومة الظالم وأهله- هي إجراء سياسي بشع،خلف ضررا بالغا في مقومات الأمة الإسلامية،أطفئ جذوة الأخوة ووأد إمكانية الوحدة والتوحد في كيان واحد.
وعلينا اليوم،أن نلتفت إلى المؤامرات التي حيكت،ولا تزال تحاك ضد الإسلام،لزجه في أتون التآكل والصراع الطائفي،من أجل القضاء على أي إمكان لإقامته بديلا،عن كل تلك النظريات التي أثبتت فشلها،في حل مشاكل البشرية في العيش الكريم.
وعلينا أيضا،أن نحصر مواضع الشر والفتنة في الأمة،بالكشف عن خطورة كل دعوى،لا تأخذ في حسابها المصلحة العامة للأمة،في ترابطها وتلاحمها،فنكون قد أجهضنا اخطر المؤامرات،التي ما يزال أعداء الإسلام يأملون في إنجاحها،فكلنا على ثغر من ثغور الإسلام،وليحذر أحدنا أن يؤتى منه.
اللهم ومن أراد بالإسلام والمسلمين خيرا فارده، ومن كادهما فكده،اللهم انصر الإسلام وأهله واخذل النفاق والكفر وأهله، واجعل كلمتك كما وعدت هي العليا،وكلمة النفاق والشرك هي السفلى، وآخر دعوانا أن الحمد لله بر العالمين.